الإمارات الان ( إن المجتمع العاجز عن التدين هو أيضا عاجز عن الثورة, والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعا من المشاعر الدينية الحية.. إن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاض من الألم والمعاناة ويحتضران في الرخاء والرفاهية والترف)..... عن المفكر الإسلامي الراحل علي عزت بيجوفيتش, رئيس البوسنة والهرسك الأسبق.
بشكل عام تؤكد الكثير من الدراسات والبحوث واستطلاعات الرأي الدولية منها والإقليمية أن عودة التيارات والاتجاهات الدينية في العالمين العربي والغربي كانت نتيجة مباشرة ( لانهيار الأيديولوجيات العلمانية التي أظهرت الأيديولوجيات الدينية من جديد في أواخر القرن العشرين, لكي تؤدي دورا رئيسيا في الصراعات الدولية في بدايات القرن الواحد والعشرين, لأن شرعية الايديولوجيا تنبع من استجابة العقل إلى حاجات أخرى غير الحاجات العلمية والتقنية، أي الرد على مطالب تجد مكانها لا على الساحة العلمية فحسب, وإنما في الساحة الاجتماعية, والسياسية, والثقافية العامة. فكل جماعة بشرية, مجتمعا كان او طبقة, لها رؤية شمولية تدمج فيها جملة إشكاليات نظرية وأخلاقية ورمزية متباينة, وتختلف هذه النظرة وفقا لعصور وأعقاب مختلفة, من أجل تحديد مواقف كبرى من الوجود والعالم, وفي كثير من الأحيان, لا يستطيع العلم ان يقدم لها أجوبة خاصة ).
أما بشكل خاص فقد أثبتت التحولات التاريخية والسياسية التي عصفت بالعالم العربي ولا زالت مع نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن 21 فيما أطلق عليه بثورات الربيع العربي، تلك الرؤية بشكل أوضح, حيث تعد ظاهرة صعود التيارات الإسلامية السياسية ومجموعات الإسلام السياسي بشقيها الراديكالي والبراجماتي, أحد أهم وأبرز إفرازات نتائج وأثار تلك المرحلة.. ويلاحظ هنا أن نجاح تلك التيارات الدينية في البروز على الساحة السياسية والاجتماعية لم يقتصر على الدول التي اجتاحتها الموجة الرئيسية للثورات العربية كتونس ومصر وليبيا بل امتد حتى لتلك الدول التي لم تتأثر بشكل مباشر بالموجة الأم للثورات الشعبية كالمغرب والجزائر وغيرهما من الدول العربية والخليجية على سبيل المثال لا الحصر .
وما يثير الانتباه والدهشة في هذا الأمر تباين الاستقرار والنجاحات التي حققتها تلك التيارات من دولة عربية لأخرى, فبينما نجح التيار الإسلامي بشكل لاباس به في تحقيق الاستقرار في تونس, نلاحظ استمرار التجاذبات والمشادات والصراعات الحزبية والشعبية بين تلك الأحزاب المنتصرة من الإسلاميين في ليبيا, وبينما وصلت بكل هدوء إلى سدة الحكم في المغرب نلاحظها وهي تعيش مرحلة من الفوبيا السياسية والصراع الاجتماعي والسياسي في مصر.
تنوع داخل التيارات الإسلامية
وهو ما يؤكد لنا أنه وبالرغم من اشتراك تلك المجموعات الإسلامية في التوجهات المهمة والأساسية, إلا ان تلك المجموعات كما يؤكد جون اسبوزيتو وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط، تختلف من بلد لآخر, هي شديدة التنوع الأيديولوجي, وتختلف في رؤيتها العامة, على الرغم من ثبات مبادئها الخاصة والأصيلة كـ"الإسلام هو الحل" وفكرة إنشاء خلافة أو دولة إسلامية.
لسنا هنا في صدد دراسة تاريخ الحركات الإسلامية, بل ينصب تركيزنا بوجه خاص على الحالة التاريخية الراهنة التي تركزت على ارتباط نجاح وصعود تلك الحركات الدينية بثورات الربيع العربي, والسؤال الذي يطرح نفسه يدور حول الأسباب والدوافع التي كانت وراء الاختيار الشعبي والجماهيري لتلك التيارات والأحزاب الدينية لتقود وتدير المرحلة التاريخية الراهنة لما بعد مرحلة سقوط الأنظمة السياسية القديمة في العالم العربي؟
هذا السؤال يدفعنا بالطبع إلى سؤال آخر رديف, ربما كان هو الأكثر بروزًا من خلال الأطروحات الثقافية والسياسية التي تداولها إعلام المرحلة التاريخية, اقصد أسباب نجاح التيارات الإسلامية واكتساحها للمشهد السياسي العربي الراهن.
هذه الأسئلة – من وجهة نظرنا الشخصية – لا تحتاج للكثير من الدراسات والبحوث الأكاديمية المتعمقة لمعرفة وفهم حقيقتها, حيث يمكن اختصار الأسباب التي أدت الى انتصار الأحزاب والتيارات الإسلامية خلال المرحلة الراهنة في نجاح تلك التيارات الدينية - السياسية في استغلال الحالة التاريخية والحضارية والنفسية والعاطفية والإيديولوجية الجماهيرية الراهنة وحالة الفراغ والفوضى السياسية التي نتجت عن تلك الثورات والتمرد الجماهيري الذي اسقط العديد من أنظمة الحكم, واستغلال الهوة السحيقة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة من جهة, وثقة الجماهير وإيمانها بصدق رؤية تلك الأحزاب الإسلامية في فترة الاضطراب التاريخي من جهة أخرى.
العواطف .. هل تقود الثورات؟
فمن الواضح كما يؤكد ذلك لوبون في كتاب فلسفة التاريخ أن ( الثورات الاجتماعية بمفهومها المجرد لا تحصل عن طريق التخطيط والعقل – بل وربما لا تحتاج إليه في كثير من الأوقات والأزمان – بل تؤدي العاطفة والحماس الثوري دورا بارزا فيها, لأنها كانت نتيجة تفاعل القوى الاجتماعية التي تحركها بالدرجة الأساسية المصالح الشخصية والوطنية, ومع حدوث هذه الثورة تنتهي دورة تاريخية وتبدأ دورة حياتية أخرى مختلفة, والسلطة الجديدة تعكس وان كان بصورة نسبية الحالة الجدية التي توصل إليها المجتمع نتيجة التطورات التي حدثت فيها, لذلك على الأقل في البداية لا تحتاج هذه السلطة الجديدة إلى استخدام القوة لفرض مبادئها, إلا بالقدر الذي يحارب بها النظام القديم, والتي لا تتعدى محاولات الاحتضار, لأن رسالتها التاريخية قد انتهت) .
وبمعنى آخر، نجح مفكرو ومخططو تلك التيارات وحركات الإسلام السياسي في فهم نقطة ضعف النفسية الجماهيرية والاجتماعية العربية نحو تزايد رصيد الكراهية والحنق تجاه أساليب إدارة الحكم والثروات لتلك الأنظمة السياسية العربية التي لا زالت تنظر إليها الجماهير الغاضبة على أنها أنظمة قمعية وعميلة للغرب والاستعمار, ولا هم لها سوى ملئ بطون وجيوب أتباعها ورعايها, حتى وإن كان ذلك على حساب الشعب وقوته ومستقبله .
فكانت تلك النقطة مدخلا أيديولوجيا استطاعت تلك التيارات والأحزاب استغلاله والعزف على وتره مع بعض اللمسات العاطفية والدينية لسحب البساط من تحت الأنظمة القائمة, ( وغالبا ما تقبل أيديولوجيا معينة بسبب عناصر نظرية خاصة تفضي الى مصالحها وليس بالضرورة على عناصر أصيلة فيها, وإنما قد ينبثق ذلك الاختيار من مواجهة عرضية ولحظية.. فحين تكافح مجموعة فلاحيه فقيرة مثلا ضد مجموعة حضرية استعبدتها ماليا, فقد تتجمع حول عقيدة دينية ترفع من قيم الحياة الزراعية وتلعن الاقتصاد النقدي ونظامه الائتماني بوصفه غير أخلاقي) .
لقد كان للوضع النفسي والروحي والحضاري الذي تمر به الأمتان الإسلامية والعربية من تردٍ أممي وقيادي وتفسخ في الأخلاق وانهيار للقيم والمبادئ والمثل الفاضلة والدينية دورًا لا يقل أهمية في وصول تلك التيارات الإسلامية وبغض النظر عن توجهاتها الدينية إلى سدة الحكم, فكما هو معروف فإن اغلب السلطات القائمة تكاد تمر في حالة من التفكك والانهيار الأيديولوجي, او بعبارة أخرى لا تحظى بالقوة الأخلاقية التي تسيطر بها على المجتمع.
جاءوا عبر الديمقراطية .. وبها يستمرون أو يرحلوا
وفي هذا الشأن يرى الروائي السوداني أمير تاج السر أن صعود الإسلاميين للسلطة له ما يبرره بقوله (هذه الجماعات تنادي بتطبيق مبادئ الدين الحق في مجتمعات معظمها مسلمة ومتدينة، وهذه المجتمعات تتوق إلى العدالة التي افتقدتها لسنوات طويلة، ويرون ان مثل هذه الجماعات الإسلامية هي وحدها القادرة على ضمانها، وثانيا لأن هذه الجماعات لم تأخذ حظها في العمل السياسي من قبل ) ويضيف تاج السر(كانت هذه الجماعة محارَبة ومنبوذة بشدة، وهذا ما أكسبها التعاطف بلا شك.. وشخصيا لا أجد مبررا من الخوف، لأن وصول الإسلاميين للحكم جاء بالديمقراطية التي نادت بها تلك الشعوب، وأسقطت بسببها ديكتاتوريات عريقة، فبما أنهم جاءوا بالديمقراطية فسيستمرون فيها أو ربما يذهبون بها )
لذلك نرى الناس يعملون على إحياء الجذور الدينية للحصول على دواء لمشاكلهم التي لا تستطيع الدولة القيام بأي شيء تجاهها, وفي الأحوال كافة كما يقول مكيافيللي ( فإن احترام العبادة السماوية يكون مصدر العظمة للجمهوريات, وان إهمالها يؤدي الى تدهورها وخرابها, لأنه حيث يوجد الافتقار الى الخوف من الله, تكون المملكة إما قد أصابها الخراب او سيطر عليها الخوف من الأمير, وهو خوف يستعاض به عن الدين ).
نظرة إلى المستقبل
وهناك من الإشارات والدلائل ما يشير الى إمكانية استمرار تلك التيارات الدينية في البقاء لفترات طويلة على قائمة الأحزاب والتيارات المفضلة لدى شعوب المنطقة لإدارة الحكم خلال الفترة الزمنية القادمة بالرغم مما يقال عن تأكلها نتيجة بعض التجاذبات والتغيير في الأفكار نحو السعي للوصول للسلطة، طالما ظلت تمارس الفعل الديني من خلال تلك الرؤية السياسية الجماهيرية, وطالما استطاعت ان ترسخ ثقة المجتمع بأفكارها, فحالة التفسخ والانحلال والانهيار الأخلاقي الذي تعيشه الأمة يدفع غالبية شعوب المنطقة ذات الأغلبية المسلمة إلى الاتجاه نحو هذه الأحزاب والتيارات الدينية نفسيا وروحيا لقيادتها وتغيير أوضاعها حتى تثبت تلك الأحزاب عكس ما اعتقدته شعوب المنطقة فيها وفي أفكارها وتوجهاتها.
وهو ما يعني بمعنى آخر , فشل العديد من الأنظمة العربية القائمة وعجزها عن استقراء الواقع السياسي والاجتماعي وفهم وتحليل مستقبل الكثير من التغيرات والتحولات التي عصفت بالعالم العربي منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001م وحتى نهاية العقد الأول من القرن 21 , وهو ما أدى بدوره الى عجز تلك الأنظمة عن البحث عن أساليب وأيديولوجيات التقرب والتواصل الإنساني الفكري والنفسي مع شعوبها وبالتالي استفحال ظاهرة العداء الشعبي والكراهية لها, والذي نجحت في شحذه وتحفيزه جماهيريا بطريقة او بأخرى, الأمر الذي ساهم في تسهيل وصولها الى الحكم في اغلب دول الربيع العربي وربما سيكون ذلك في دول أخرى في العالم العربي خلال الفترة الزمنية القادمة.
والحقيقة ان تلك النقاط سالفة الذكر بشكل خاص هي ما دفعت الشعوب الى أن ترى من وجهة نظرها ان الخلاص في تلك التيارات وأفكارها؛ أي تلك المجموعات التي وقع اختيار ثقتها عليها في هذه المرحلة التاريخية المضطربة, لقيادة وتحريك وإدارة المرحلة الراهنة كونها تملك ما تحتاجه هذه المرحلة الحضارية وما تحتاجه الجماهير المتعطشة للحرية والعدل والاستقرار .
فالإنسان المتدين الذي يخاف الله، وتشاهده يقوم بواجباته الدينية على أكمل وجه, في نظرها، هو الأصلح للمرحلة الإنسانية والتاريخية ووحده القادر على رعايتها وحماية حقوقها وتوفير العدالة والحرية والديموقراطية والكرامة والاستقلال الوطني والإنساني لها, وهي – أي – الأحزاب الدينية من وجهة نظر العديد من شعوب المنطقة وحدها في ظل وجود هذا الفراغ وندرة الأحزاب والتيارات القريبة من نفسيتها الثقافية والفكرية والنفسية، يمكن أن يوفر لها الأمل والسكينة والاستقرار والعدالة الاجتماعية والديموقراطية.
البقاء في السلطة مرهون بعدد من النجاحات
على العموم ورغم كل تلك النجاحات التاريخية الكبيرة لحركات الإسلام السياسي خلال المرحلة الراهنة, وبغض النظر عن الأسباب التي أوصلتها لهذه المكانة, ورغم وضوح فكرة تبني المجتمع والجماهير للرؤية الأيديولوجية والسياسية لتلك الأحزاب والتيارات الدينية ولو لفترة مؤقتة, إلا ان ذلك لا يضمن لها النجاح المطلق او المستقبلي, فبقاؤها في السلطة مرهون بعدد من الشروط الصعبة, ولابد ان تدرك ان المحيط الداخلي والإقليمي والدولي لا يزال ينظر إليها بريبة وخوف, وخصوصا في ظل تلك الفسيفساء الواسعة من الثقافات والأيديولوجيات والتيارات والأديان التي تحيط بها.
وللأمانة التاريخية لابد ان نشير الى انه ليس كل الحركات الدينية تريد الاستيلاء على السلطة والحكم والتحويل الثوري للمجتمع, او إجبار الناس على اختيار البديل الإسلامي او إنشاء وقيام الدولة الإسلامية بشكل قمعي، حتى ولو كانت تريد جميعها تجاوز الحداثة.. نقول ذلك بالرغم من التأكيد على قاعدة تاريخية اثبت صحتها الى حد بعيد, أن ( أولئك الذين ارادوا الديموقراطية – مهما اختلفت تياراتهم وتوجهاتهم - إنما ارادوا منها وسيلة لزيادة حصتهم في الحكم السياسي, وإضعاف قوة وسلطة أولئك الذين يحكمون فعلا ).
فبعضها يعمل على تكوين جماعات مؤمنين حقيقيين, وان كنا نؤكد على مشروعية وأحقية نيل تلك التكوينات والأحزاب الدينية نصيبها من تجربة الحكم في حال اختار الشعب وارتأت الجماهير ذلك, على ان يكون الاختيار مبنيًا على أسس دستورية وقانونية وديمقراطية.
ومن خلال استقراء اللحظة التاريخية الراهنة, وبنظرة الى مستقبل تلك التيارات والأحزاب الدينية التي وصلت الى سدة الحكم على بعض رقعة الشطرنج العربية, نؤكد على ان ضمان بقاء تلك التيارات يعتمد خلال المرحلة المستقبلية القادمة على استمرار ثقة الغالبية الجماهيرية فيها وفي أفكارها وتوجهاتها وسياساتها المستقبلية على ارض الواقع, وخصوصا تلك التي تلامس الحياة اليومية للناس, وكذلك مرهون بمدى قدرتها الأيديولوجية على مواكبة التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية المتسارعة من حولها.
وبمعنى آخر؛ فإن بقاءها واستمرارها مرهون بالتجربة والتطبيق وبمدى قدرتها على توليد القوة والطاقة السياسية الجماهيرية المحركة لمسوغات ضمان البقاء والاستمرار والمحافظة على السلطة والقيادة السياسية والاجتماعية والإنسانية في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية خلال المرحلة القادمة, هذا بالإضافة الى أهمية التزامها باستمرار الاعتدال في الرؤية التي تحقق الإجماع الجماهيري على بقائها في السلطة والتي تتمثل في الابتعاد عن التزمت والتشدد الأيديولوجي والسياسي, وتحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأنظمة السابقة من العدل والمساواة والحرية والتكافل الاجتماعي, وإلا فان النتيجة ستكون واحدة ومتقاربة: ذهبت دكتاتوريات ملونة لتحل مكانها أخرى بنفس الألوان .
………………
باحث في الشؤون السياسية
azzammohd@hotmail.com