توطين لأجل التوطين!

  •  
  • 2012-05-19
    الإمارات الان

    أشقاؤنا العرب المنصفون يدركون أن فتح سوق العمل الخليجي أمامهم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أسهم بشكل كبير في تحسن أوضاعهم المادية والمعيشية.

     

    كانت فرصة العمل في دول الخليج أشبه بالحلم.. أو هي الحلم ذاته، جاء الكثير من أشقائنا العرب إلى منطقة الخليج هرباً من الفقر، تحملهم أقدامهم، وتدفعهم أحلامهم، والفقر ليس عيباً، كان تجاوز خط الفقر وتحسين الوضع المادي يداعب مخيلة الكثيرين منهم، وقد تحقق لهم -بفضل الله قبل كل شيء- أكثر مما كانوا يسعون ويطمحون إليه، إذ أغدقت عليهم دول الخليج الأموال، ومنحتهم الرواتب والحوافز والامتيازات، بل ومكنت الكثيرين منهم من اصطحاب عائلاتهم، ومنحتهم التعليم المجاني والرعاية الصحية، ووفرت لهم قيمة السكن والنقل، وهو ما نقلهم من الهامش إلى صلب الحياة الكريمة، بل إن العطاء الخليجي انعكس على الكثير من الأسر العربية في مصر والشام والأردن وفلسطين والسودان، كثير من البيوت في تلك الدول الشقيقة قامت أعمدتها بفضل الله ثم بوساطة المال الخليجي، كانت الحوالات المالية والحقائب المعبأة لا تتوقف طيلة العام.
    لم يقابل الخليجيون ما قدموه بالمن أو الأذى، ولم «يعاير» أهل الخليج أشقاءهم، ولم يخرج من بينهم من يقول: «حنا اللي أطعمناكم، حنا اللي فتحنا لكم بيوت ونقلناكم من العراء إلى المساكن الدافئة، حنا من ألبسناكم يا عراة يا حفاة، حنا من أطعمناكم يا جوعى» أبداً لم يصدر ذلك من أي خليجي، لا أذكر أبداً أننا نعتنا أشقاءنا العرب بفقرهم وحاجتهم، لأننا كنا ندرك جيداً أن أسلافنا كانوا يعيشون في منطقة هي الأفقر في العالم، ناهيك أن أهل الخليج كانوا -وما يزالون- يدركون أن الحياة أخذ وعطاء، طبيعة الحياة عملية تبادلية بين الأحياء، تعطي الآخرين لتأخذ منهم، يعطونك ليأخذوا منك، ولذلك حينما تسأل كثيراً من العقلاء في الدول العربية يعترفون لك بشجاعة وثقة أن النفط الخليجي لم ينعكس على الخليجيين وحدهم، بل امتد أثره ليشمل الكثير والكثير من البيوت العربية، التي جاء أبناؤها بعقود عمل، ورواتب مغرية، مكنتهم من بناء حياتهم ووفرت لهم سبل العيش الكريم.
    عمل أشقاؤنا العرب في كثير من المهن، ومن أبرز تلك المهن التي استقطبتهم مهنة التعليم، عطفاً على البدايات المتأخرة للتعليم في هذه المنطقة، قياساً ببقية دول الوطن العربي، كانت دول الخليج قادرة على توفير الإمكانات والبنى التحتية، وهو ما حدث إلى حد مقبول، لكنها وقعت في مأزق الإمكانات البشرية، وهو ما دفعها -جميعا دون استثناء- إلى اللجوء إلى السوق العربية لاستقطاب المعلمين، فكان من غير المستغرب حتى مطلع الثمانينيات الميلادية أن تدخل كثيراً من المدارس الخليجية فلا تجد أي موظف خليجي باستثناء حارس المدرسة!
    سعت دول الخليج خلال الثلاثين سنة الماضية إلى توطين مهنة التعليم، وكان هذا من أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها، ذلك لأن الهدف -فيما يبدو- كان «توطين لأجل التوطين»، كانت وزارات التربية والتعليم في الخليج -يا للأسف- تنهي عقود معلمين عرب، ذوي خبرات كبيرة، بعضهم تتجاوز خبرته الثلاثين والأربعين عاماً، وتقوم بتعيين معلم وطني شاب في مطلع العشرين من العمر، لا تتجاوز خبراته «مغامرات جراندايزر» ومجلة «ماجد» وميكي ماوس!
    كان التعليم في الخليج يتعرض لعملية هدم واضحة بحجة التوطين الجائر، وهو ما تحقق لها -يا للأسف مرة أخرى- خلال السنوات القليلة الماضية، بعضها حقق نسبة %100 في توطين المهنة، غاية الطموح لدى الحكومات الخليجية تحقق، أصبح لدينا في الخليج المعلم السعودي والكويتي والقطري والإماراتي والبحريني والعماني!
    لم أكن أبداً أتمنى توطين مهنة التعليم بذلك الشكل القسري، كنت أدرك أننا نرتكب خطأ استراتيجياً، نحن لا نوطن مهنة بيع خضار أو محاسبة أو سائقي أجرة، نحن نتناول مهنة حساسة تتعلق بمستقبل الأجيال القادمة تستلزم الخبرة والكفاءة والمقدرة.
    العالمون ببواطن الأمور في الخليج اليوم يدركون بوضوح أنهم أصبحوا يواجهون ما يعرف بـ»ضعف المخرجات التعليمية»، أصبحت العملية التعليمية مثل دورة الماء الطبيعية تماماً، تبخر، تكثف، تكون السحب، سقوط الإمطار، وهكذا دواليك، يدرس الطالب، يتخرج، يدخل في كلية المعلمين، يتخرج ويعمل في سلك التعليم!
    فات كثيراً على الحكومات الخليجية ضرورة تأهيل المعلم خارج البلد في دول متقدمة قبل تسليمه عقول أبنائنا، ولذلك فقد التعليم بريقه وقيمته وقدرته على مواكبة العصر، وهو ما دفع الكثير من الخليجيين اليوم للجوء إلى المدارس الخاصة بحثاً عن معلم غير خليجي ليدرس أبناءهم! نلتقي السبت القادم بإذن الله.


  •